آفاق تدريس العلوم الدينية
آفاق تدريس العلوم الدينية | أجمع الباحثون والدارسون على أن الدين يشكل عنصراً حاضراً ودائماً في كل الثقافات والحضارات عبر العصور، ومهما اختلفت الأديان بين سماوية وأخرى وضعية؛ إلا أن الحاجة إلى التدين تظل مطلباً إنسانياً لدى كل إنسان. وربما قد ظن البعض أن تقدم العلوم التجريبية سيؤدي إلى إضعاف الدين في حياة الناس، ولكن واقع الحال يدل على أن البشرية لا تزال تعطي اعتباراً مُهماً في حياتها للدين، وبدأ الكثيرون يرون تحقق قوله الفيلسوف الفرنسي “أندري مالرو” (1901م- 1976م) المشهورة التي قال فيها: “إن القرن الحادي والعشرين سيكون دينياً أو لن يكون”؛ ولذلك فإننا نقرأ اليوم لكثير من الباحثين الغربيين عن عودة التدين من جديد، بعد ما مر به الغرب فيما يُعرف بعصر التنوير من محاولة لتهميش الدين وإقصائه عن التأثير في الحياة. ولئن كان الغرب يتحدث عن عودة التدين من خلال الاهتمام الذي تشهده الظاهرة الدينية اليوم، فإن العالم الإسلامي ظل الدين حاضراً في واقعه، على الرغم مما عرفه من حالات تراجع أو ضعف في العناية بالتوجيه الديني وبالعلوم الدينية.
قد يهمك ايضا: التعليم الجامعي المفتوح
إن استقرار الحاجة إلى الدين في حياة الناس يترتب عليه حتماً الاهتمام بالعلوم الدينية، وخصوصاً ما يتعلق بالأديان السماوية التي لها رصيدها من النصوص المرجعية والتراث الموروث. وقد شكل ذلك محوراً للدراسة والبحث والتدبر من قبل معتنقي هذه الأديان والمهتمين بها بصفة عامة، ولا يقتصر الاهتمام بالدين- دراسة وبحثاً- على النصوص والتراث، بل إن التجربة الدينية للأشخاص مثلت هي كذلك مجالاً ثرياً امتدت أبعاده لتشمل الأدب والفنون ومظاهر الحياة الاجتماعية وغيرها.
المقصود بالعلوم والدراسات الدينية
يمكننا أن نقسم العلوم والدراسات الدينية باعتبارها موضوعاً للدراسة والبحث والتعليم إلى دائرتين:
الدائرة الأولى: وتشمل ما اصطُلح عليه في المجال الإسلامي بالعلوم الشرعية، وهي العلوم التي تعنى بدراسة الدين نفسه باعتباره خطاباً موجهاً من الله تعالى إلى عباده، وهي علوم تستقي مادتها من النصوص الدينية، وما يُبنى عليها من نظر اجتهادي استدلالي واستنباطي. وقد ذهب البعض إلى تصنيف العلوم في هذه الدائرة إلى صنفين: علوم مقاصد وعلوم آلة: فعلم التفسير مثلاً من علوم المقاصد لأن به يُتوصل إلى فهم القرآن الكريم، وهو مقصد؛ ولكن علم البيان- مثلاً- من علوم الآلة التي تساعد على الوصول إلى المقصد من هذا العلم. وكذلك علم الفقه هو من علوم المقاصد باعتباره يبحث في أفعال المكلفين وفق مراد الله منهم. إن البحث في هذه الدائرة الأولى من العلوم يخضع إلى منهجية تتسق مع الغاية التي تُدرس من أجلها. فإذا كان الهدف منها هو فهم الخطاب الإلهي والكشف عن مراد الخالق من عباده، فيجب أن يلتزم الباحث بالمرجعية المقررة لهذه العلوم وأن يكون نظره الاجتهادي دائراً في دائرتها. وقد ذكر الشاطبي في الموافقات أن مقاصد الشارع ترجع إلى أربعة أنواع:
– قصد الشارع من وضع الشريعة ابتداء،
– قصده من وضع الشريعة للإفهام،
– قصده من وضعها للتكليف بمقتضاها،
– قصده من دخول المكلف في الامتثال.
الدائرة الثانية: وتشمل علوماً قامت على مقاربات دينية في منهجية بحثها، أو هي علوم مقارنة لا تقتصر على المرجعية الدينية وحدها. ومن أمثلة ما يقوم على مقاربات دينية بعض المحاولات الحديثة في تأسيس بحث علمي يعالج القضايا التي هي موضوع اختصاص علم من العلوم الإنسانية ولكن بمقاربة إسلامية، مثل بعض الدراسات التي تناولت بالبحث قضايا في علم الاجتماع أو في علم النفس من زاوية إسلامية؛ وكذلك الدراسات المقارنة التي تعالج قضايا بحثية تجمع بين مجالين من العلوم مثل الدراسات المقارنة بين الفقه والقانون.
وإذا كانت الدائرة الأولى من العلوم الدينية أقرب إلى اختصاص الدّارسين للعلوم الشرعية، فإن الدائرة الثانية تشمل غيرهم من ذوي الاختصاصات الأخرى المهتمين بالشأن الديني في اتصاله بالعلوم الأخرى. وقد أصبح هذا التقسيم بين الدائرتين مُكرساً في مسيرة الفكر الحديث، وإن كان الاتصال في تاريخ الفكر الإسلامي اتصالاً وثيقاً بين العلوم الشرعية وغيرها من العلوم، وكان المفكر يستوعب في اهتماماته علوماً شتى، تكون في خدمة التخصص. ولذلك عرفت الحضارة الإسلامية علماء موسوعيين يخوض الواحد منهم في حقول معرفية متعددة، فيبحث ويكتب في التفسير والفقه واللغة والتاريخ والاجتماع والطب والفلك والحساب…
ولاشك أن اتساع الكم المعرفي للعلوم على مر العصور، اقتضى التخصص العلمي الذي يباعد مع الزمن بين مجالات العلوم المختلفة؛ وكذلك فإن الانحسار النسبي للبحث الديني عن قضايا الواقع والفكر جعل العلوم الدينية وكأنها في دائرة محدودة. ولكن النزعة الشديدة للتخصص في العلوم وإن أدت إلى تطوير البحث وتعميقه في كل علم من العلوم إلا أن الإغراق فيها يؤدي إلى مشكلة منهجية تتمثل في النظر الجزئي للقضايا المدروسة. ومن هنا قامت الدعوة اليوم إلى إعمال منهجية تعددية تكاملية تستصحب قدر من الإمكان كسب العلوم المختلفة عند ممارسة البحث، لأن الظواهر المدروسة في حياة الناس والفكر ليست إلا نتيجة لتفاعلات معقدة تتداخل في تكوينها والتأثير فيها عوامل متعددة.
العلوم الدينية والمقاربات المنهجية في تناولها
نشأت في كل دين ثقافة دينية قامت على دراسته بمنهجية داخلية انطلقت من مرجعيته المقررة لدى أتباعه، وتوصلت من خلال جهود البحث والممارسة العملية إلى الاستقرار حول مجموعة من الثوابت في فهم الدين تتسع دائرتها أو تضيق بحسب الجدل الديني الذي دار حول عدد من القضايا الخلافية. ومع دخول العلوم الإنسانية- مثل علم الاجتماع الديني- في تناول الظواهر الدينية بالدراسة، ظهرت مقاربة أخرى تنظر إلى الدين من خلال ما ينشأ عنه من ظواهر اجتماعية، وكذلك النظر في الفكر الديني من حيث نشأته وتطوره. ولئن ابتعدت هذه المقاربة عن التصدي لدراسة الدين بهدف الكشف عن حقائقه، إلا أن الحد الفاصل بين دائرتي النظر لا يكاد ينضبط بقواعد واضحة تمنع التداخل بين دراسة الظواهر وتقرير المبادئ، ويمكننا أن نضرب مثالاً على ذلك بما يتوصل إليه بعض الباحثين في دراستهم لبعض الظواهر الاجتماعية المتصلة بموضوع المرأة المسلمة وما يتعلق بها من خلفيات دينية متمثلة في استنتاجات لا تقف عند الحكم على هذه الظواهر، وإنما تتعدى ذلك للحكم على الدين نفسه، من خلال فهم لمبادئه بطريقة غير مسلم بها فيما هو مقرر من منهجية للفهم لذلك الدين عند علمائه ومختصيه. إن وجود بعض الظواهر السلبية في التعامل مع المرأة في واقع المسلمين لا يقتصر على ممارسة اجتماعية منتقدة، وإنما يعود عند هؤلاء الدارسين إلى مبادئ الدين نفسه التي انتقصت من مكانه المرأة في نظرهم؛ ويؤيدون موقفهم هذا بالاستشهاد بنصوص كثيراً ما تُنتزع من سياقها أو يتم تناولها بشكل جزئي يفصلها عن المنظومة العامة التي يجب أن تتنزل فيها.
ويُلحق بإشكالية المقاربة المنهجية في مجال الفكر الديني، ما يقع فيه بعض الدّارسين في مجال مقارنة الأديان أو بعض المفكرين الذين يعمدون إلى تعميم منهجية في النظر لسائر الأديان دون مراعاة لخصوصياتها، من ذلك ما يتعلق بالتعامل مع النصوص المرجعية للأديان، إذ أن انطلاق البعض- مثلاً- من أن الأناجيل التي كتبها أصحابها انطلاقاً من فهمهم لرسالة المسيح لا يمكن إلا أن تحمل انطباعات من كتبوها، فإنهم يحاولون تطبيق هذا المنهج على القرآن أيضاً باعتبار أن الدور الذي قام به الصحابة في جمع القرآن لا يمكن أن يخلو من تصرف في النص نفسه. يقول “أودون فالي”: “بالنسبة إلى كل هذه الكتب من هم المُدونون لها؟ من هو الذي يستطيع ادعاء صفة المؤلف المقدس؟ من يستطيع ادعاء الإلهام المقدس؟ إن القضية تزداد حساسية بسبب أن تدوين هذه الكتب تم بشكل عام بعد موت مؤلفيها، ولن نعرف أبداً ما يعود- فيما دونوه- إلى انطباعاتهم وما يعود إلى الحقائق، حسب المقارنة المنسوبة إلى “باخ”: ما هو القسم الذي يعود إلى “سحب الهواء” (inspiration) والقسم الذي يعود إلى “لفظ الهواء” (transpiration)؟”
المعنيون بدراسة العلوم الدينية
يمكن أن نقسم المعنيين بالعلوم الدينية إلى فئتين:
فئة المختصين الذين يدرسون هذه العلوم للتخصص فيها ودراستها من مصادرها لفهم مضامينها بما يُعينهم على حسن تمثلها وتبليغها لغيرهم. ولا يخلو أي دين من مؤسسات وبرامج تعليمية دينية تقوم على هذه الوظيفة، لأن استمرار الدين في واقع الحياة يكون باستمرار من يعتنقه في استيعاب مبادئه وعلومه ونشرها بين الناس.
والفئة الثانية هي التي يمكن أن نسميها بفئة المهتمين بالثقافة الدينية سواء كان ذلك الاهتمام من باب الالتزام العملي وما يقتضيه من معرفة، أو من باب الاهتمام الثقافي العام باعتبار أن الثقافة الدينية من المكونات الأساسية للثقافة العامة.
ولاشك أن منهج التعليم والتدريس يختلف من حيث العمق والتناول بحسب فئة المتعلمين المستهدفين، كما أن المنهج يجب أيضاً أن يراعي خصائص المخاطبين باعتبارهم من أتباع الدين أو من غير أتباعه، إذ أن المفاهيم الحاصلة والأرضية الفكرية لأتباع الدين لا تتوفر لغيرهم؛ وهو ما يجب أخذه بعين الاعتبار. ومن هنا يأتي الحديث عن ضرورة “الطرح العولمي” (approche universelle) لحقائق الدين بما يجعلها في متناول الجميع فهماً وإدراكاً.
أهداف تدريس العلوم الدينية
إن الغاية من تدريس العلوم الدينية تختلف بحسب أهداف المؤسسة التعليمية وبحسب ما يبتغيه المتعلم، إذ أن ما تستهدفه جامعة إسلامية في تدريس طلبتها لا يتطابق مع ما تستهدفه جامعة عامة تهتم بتدريس علم الأديان كثقافة مكملة. كما أن طالب الشريعة المسلم تختلف مراميه عن طالب يريد أن يكتسب معرفة عن الأديان لغاية دراسية بحتة. إن العلوم الدينية تختلف عن غيرها من العلوم الأخرى باعتبارها تتعامل مع المعتقدات ومع الالتزام السلوكي للمؤمن بالدين؛ وبالتالي فإن تعامله مع العلوم الدينية لا يقف عند تلقي المعلومات النظرية ولكنه يحاول أن يستفيد من علمه لنفسه. وليست هذه الغاية العملية مما ينافي المنهج العلمي في دراسة العلوم الدينية كما قد يظن البعض، إذ أن استفادة الطبيب من معارفه الطبية لنفسه لا يخل بمنهجه العلمي في دراسة الطب.
وإذا أردنا أن نرصد الأهداف المنتظرة من تدريس العلوم الدينية الإسلامية في الوسط الإسلامي، فإنه يمكننا أن نبرز ما يلي:
ضمان نقل العلوم الدينية الإسلامية عبر الأجيال والحفاظ على رصيدها من الاندراس، وهذه الغاية إنما تقتضيها طبيعة الدين الخاتم الذي جاء برسالة دائمة للبشرية جمعاء؛ ولذلك أكد الرسول عليه الصلاة والسلام على حقيقة استمرار حمل العلم عبر الأجيال فقال: “يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُولُهُ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”
تكوين العلماء والمفكرين الذين يتخصصون في علوم الدين، ويبلغ المؤهلون منهم إلى درجة النظر والاجتهاد، إذ أن هذه العلوم يجب أن يحملها أشخاص ينشغلون بها ويتعمقون في دراستها، ويصبحون قادرين على بحث المستجدات النوازل فيها. ولذلك ربط الرسول صلى الله عليه وسلم مصير الأمة واستمرار عطائها بمدى قدرتها على التجديد والتفاعل مع المُجددين، فقال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها” . واعتبر عليه الصلاة والسلام أن زوال العلم يكون بزوال حامليه فقال: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا” .
إصلاح حياة الناس بالدين: إنّ الدين يلبي حاجة فطرية عند الإنسان ولا يمكنه الاستغناء عن هديه، ولن يستفيد الإنسان من هذا الهدي إلا عن طريق العلم؛ ولذلك قُدم العلم على كل شيء مثل ما قرره البخاري في صحيحه في إحدى تراجمه في كتاب العلم بقوله: “باب العلم قبل القول والعمل”. إن إغفال العلم الشرعي لا يُنقص من حاجة الإنسان إلى الدين فحسب، ولكنه ينتج متدينين تدينا يقوم على الجهل وقلة الوعي، أو تدينا يميل بأصحابه إلى التشدد والتنطع، وفي كلا الطريقين يوجد بعد عن الاعتدال والوسطية السليمة.
ولاشك أن تحقيق هذه الأهداف رهين بما يقوم عليه تدريس الدين من مناهج قويمة وإدراك سليم لمراميه وحاجة الناس إلى هديه.
الآفاق التطويرية لتدريس العلوم الدينية
إن الرصيد المعرفي الإسلامي قام على جهود ممتدة ومتصلة تناولت التحصيل الكمي للمعارف الدينية وطرق تدريسها ونقلها لأجيال المتعلمين؛ ولاشك أن التعليم باعتباره عملية تفاعلية لابد له أن يتعامل مع أحوال المتعلمين وما يحيط بهم من متغيرات وما يواجهونه من تحديات وما يُناط بهم من مسؤوليات، وكل ذلك يقتضي جهوداً يجب أن تنصب على المناهج والوسائل بقدر ما تعتني بالمضامين والمحتويات.
إن ممارسة التعليم الديني يضع الدّارس أمام جملة من المقتضيات التي تستوجب التطوير والتجديد في مجال تدريس العلوم الدينية الإسلامية، ليس تطويراً يذهب بحقيقتها وينال من ثوابتها، وإنما هو تطوير يعزز عطاءها ويرسخ أصالتها ويوسع آثارها، ومن هذه الآفاق:
ضرورة التأسيس المنهجي
يمكننا القول بأن سائر العلوم والفنون تنقسم أغراضها بين مجالين اثنين: المجال المعرفي الكمي الذي يعتني ببحث مفردات القضايا موضوع العلم؛ والمجال المنهجي الذي يتناول طرق البحث والنظر في ذلك العلم. وقد يظن طالب العلم أن تحصيل علم من العلوم إنما يكون بقدر ما يحفظه من مسائله ولا تكون عنايته بالمنهج بنفس الدرجة من الاهتمام. إن المسائل الجزئية في العلوم يصعب الإحاطة بها، وبالتالي فإن تأسيس المنهج الذي في ضوئه تُدرك القضايا وتستوعب الجزئيات هو الكفيل بتكوين ملكة تستطيع رد الفروع إلى الأصول، واكتشاف العلاقات الرابطة بين الجزئيات وفهمها في سياق تكاملي.
وقد اعتنى العلماء بالكليات والقواعد والضوابط في باب الفقه- مثلاً- ليُيسّروا على طلاب العلم استيعاب المسائل بمقاربة منهجية سليمة. يقول شهاب الدين القرافي (ت 684هـ) في مقدمة كتابه الفروق: … “ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزعزت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفس من طلَبِ مُناها؛ ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب”
ويقول تاج الدين السبكي في الأشباه والنظائر: “حق على طالب التحقيق، ومن يتشوق إلى المقام الأعلى في التصور والتصديق أن يُحكم قواعد الأحكام ليرجع إليها عند الغموض، وينهض بعبء الاجتهاد أتم نهوض، ثم يؤكدها بالاستكثار من حفظ الفروع، لترسخ في الذهن مثمرة عليه بفوائد غير مقطوع فضلها ولا ممنوع؛ أما استخراج القُوى وبذل المجهود في الاقتصار على حفظ الفروع من غير معرفة أصولها، ونظم الجزئيات بدون فهم مآخذها، فلا يرضاه لنفسه ذو نفس أبية، ولا حامله من أهل العلم بالكلية… وإن تعارض الأمران وقصر وقت طالب العلم عن الجمع بينهما- لضيق أو غيره من آفات الزمان- فالرأي لذي الذهن الصحيح الاقتصار على حفظ القواعد وفهم المآخذ”
ويمكننا القول بأن تراتثا الإسلامي قد احتوى في كل فن من فنون المعرفة الشرعية على علوم كمية وعلوم منهجية. فلو أخذنا علم التفسير فإننا نجد مادة التفسير التحليلي تناولت المادة التفسيرية من الناحية الكمية، ونجد إلى جانبها مواد منهجية مثل: أصول التفسير، مناهج المفسرين. ولن يستطيع طالب العلم أن يتعامل- مثلاً- مع اختلاف المفسرين والمقارنة بين أقوالهم في التفسير التحليلي إذا لم يكن على معرفة بالقواعد المنهجية المتصلة بعلم التفسير.
وإذا عُدنا إلى علوم السنة فإننا نجد أن النظر في كتب الحديث وشروحها يوفر لنا المادة الكمية في السنة، ولكن سيظل مُفتقرا إلى نظرة شمولية متوازنة إذا غفل طالب علم الحديث عن العناية بالعلوم المنهجية، مثل علم أسباب ورود الحديث، وعلم مختلف الحديث، وعلم مشكل الحديث، التي تُزود طالب العلم بأدوات منهجية تساعده على الخوض في غمار السنة الواسعة.
وإذا نظرنا إلى علم الفقه فإننا نجد أن المدونات الفقهية الضخمة تزخر بمعلومات فقهية تناولت الأحكام الجزئية في سائر الأبواب، ومن الصعب على الدّارس أن يُحيط بها وأن يتتبع سائر تفاصيلها وأن يكون على دراية دقيقة بجميع اختلافات الفقهاء؛ ولكنه إذا كان متسلحا بأساس منهجي من خلال تحصيله لعلوم منهجية كأصول الفقه والقواعد والنظريات والفروق الفقهية، ومقاصد الشريعة، فإنه يستطيع أن يمتلك زمام النظر الفقهي الذي يجعله يُبحر في عالمه الفسيح وهو يملك بَوصَلة منهجية تسدد مساره.
إن ضعف التأسيس المنهجي وإعطاءه الأولوية في تدريس العلوم الشرعية أدى إلى غلبة المُقاربة الجزئية على المقاربة الكلية، وأدى إلى غلبة النظرة الموضعية الضيقة على النظرة المقاصدية. وكما قال المفكر الفرنسي مونتاني: “إني أفضل عقلاً مرتباً على عقل زاخر بالمعلومات”
إن العناية بالتأسيس المنهجي لا يعني الاقتصار عليه وإهمال التحصيل للجانب الكمي من العلوم، فلابد من التكامل بين المجالين بما يؤدي إلى استيعاب واعِ للعلم ويُخلص الطالب من النظر الجزئي الناقص.
إقامة جسور التواصل بين حقول الاختصاص ومواده في العلوم الشرعية
لقد تأسست العلوم الشرعية في فترات متفاوتة، وكانت نشأتها استجابة لضرورات معرفية معينة، وكلما تقدم الزمن تعددت هذه العلوم واتسعت مواضيعها وتعمقت اختصاصاتها؛ ومن المهم لطالب العلم أن تكون لديه نظرة شاملة لخارطة العلوم الشرعية وما يجب أن يكون بينها من التقاطع والتكامل ما يجعلها في سياق من التناسق المنهجي العام.
ويمكننا أن نوزّع حقول المعرفة الشرعية على الدّوائر الثّلاث التي يمثلها الدين وهي: الإيمان والإسلام والإحسان- كما جاءت في حديث جبريل- وذلك إذا ما أردنا أن ننظر إلى العلوم الشرعية في ضوء ما ينتفع به منها كثمرة في الفهم والسلوك، فيكون علم العقيدة وما يتصل به خادماً لحقل الإيمان، ويكون علم الفقه وما يتصل به خادماً لأصل الإسلام باعتباره يمثل الأحكام العملية، ويكون علم السُلوك والأخلاق متصلاً بحقل الإحسان.
وإن مما يساعد أيضاً على إقامة الجسور بين العلوم الشرعية، هو العودة بها إلى الأصلين القرآن والسنة، لأن سائر هذه العلوم انطلقت منهما. إن العودة إلى نصوص القرآن والسنة يبرز مدى الترابط بين الدلالات المختلفة للنص، والتي كثيراً ما تغطي في سياق واحد مجالات عدة تتصل بالإيمان والإسلام والإحسان. فعندما نقرأ- مثلاً- قوله تعالى في سورة البقرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ واشْكُرُوا لِلَّهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ) نجد أن الآية تضمنت ما يتعلق بالإيمان حيث صُدرت بخطاب المؤمنين، وورد فيها حكم شرعي يتعلق بقاعدة إباحة الطيبات فيما يجوز للإنسان أكله، وهو أمر يتعلق بالأحكام، ثم خُتمت بالتذكير بأمر يتعلق بالسلوك والأخلاق، وهو الأمر بالشكر الذي هو من صميم العبادة لله تعالى.
إن الربط بين مجالات العلوم الشرعية يُحرر النظر فيها من الانزلاق إلى التناول الجزئي، الذي قد يبتعد في نتائجه عن روح الخطاب التكليفي الإلهي المرتبط بالمقاصد الكلية. إن مثال آية البقرة بشمولها المنهجي بينت لنا أن التذكير بالأساس الإيماني قبل بيان الحكم التكليفي العملي يؤصل مبدأ مُهما، وهو أن الاستجابة للتكليف لابد أن تكون قائمة على أساس الإيمان قبل أن تكون إلزاماً خارجياً تقرره القوانين؛ كما أن الانتفاع بالطيبات، وهو مضمون الحكم الشرعي في الآية، يجب أن يذكر المؤمن بواجبه في الشكر لله تعالى، وبهذا الترابط نجد كلا من البُعد الإيماني العقدي والبُعد التكليفي العملي والبُعد الخلقي الروحي، يتنزل في سياق تكاملي واحد.
ولكن الرؤية التكاملية للعلوم الإسلامية لا تتنافى طبعاً مع الحاجة إلى التخصص العلمي، ولكنه تخصص مفتوح لا ينغلق في دائرة معزولة عن غيره من الجوانب الأخرى، بل يتواصل معها ويتكامل.
الموازنة بين استيعاب التراث والمساهمة في التجديد
إن التراث هو ذاكرة الأمم، ولا يمكن لنهضة فكرية أو حضارية أن تتحقق إلا بالاستفادة من الموروث، ولكن البقاء في حدود ما أنجزه السابقون دون الشعور بالمسؤولية في تطوير الموجود والبحث عن المفقود يؤدي إلى السلبية القاتلة. إن الساحة الفكرية تتنازعها وجهتان متعارضتان: وجهة تروم المحافظة على التراث محافظة جامدة وترفض الانفتاح على كل فكر تجديدي خوفاً من الانحراف عن الأصالة، ووجهة تدعو إلى التطوير الذي يريد أن ينسلخ من الثوابت؛ وبين الوجهتين وجهة ثالثة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الوفاء بمقتضيات الأصالة والنهوض بمستلزمات التجديد.
إن الموازنة بين البُعدين ضرورة لازمة للاستفادة من كسب السابقين والنظر إليه على أنه رصيد ثمين لكنه لا يغني عن جهود اللاحقين في الاستمرار بمسيرة العلم؛ بل إن من الوفاء لتراثنا أن نُعيد إحياء حقائقه بما يجعله في متناول المعاصرين. إن التراث الفقهي الضخم الذي تركه فقهاؤنا السابقون حرىٌ بالتقدير ولكنه يحتاج إلى جهد تجديدي في العرض، من ذلك حسن اختيار الأمثلة المنتزعة من واقع الناس اليوم، وعدم الوقوف عند الأمثلة التي ساقها الأقدمون مما ارتبط بظروف سابقة يصعب تصورها اليوم؛ وإن من الإنجازات العلمية التي تؤكد أن صياغة الفقه صياغة معاصرة ترتقي به إلى خطاب يفقه المعاصرون، ما بذله بعض العلماء من جهود فيما يُعرف بفقه المعاملات المالية، الذي أصبح اليوم يعرض بدائله في الساحة المالية العالمية، وما اهتمام الغرب اليوم بما بات يُعرف بنظام المالية الإسلامية إلا دليل على ما ذكرناه.
إن من وظائف التعليم الشرعي أن يُحرك لدى طلاب العلم الرغبة في الجمع بين التحصيل العلمي لتراث والشعور بالمسؤولية في التعامل مع المستجدات؛ وإن هذا التعامل هو الذي سيكون الكفاءة الاجتهادية التي يجب أن تُبنى قواعدها الراسخة تدريجياً بالتعلم والدرس والممارسة البحثية العلمية.
الموازنة بين البُعد التّجريدي ومعالجة مشكلات الواقع المعيش
يغلب على كثير من الدراسات الإسلامية البُعد التّجريدي النظري في طَرقِ القضايا بما يجعل التناول الفكري يكتسي طابعاً من العموم والإطلاق يتغاضى عن ملامسة الواقع وما يطفح به من مشكلات، بل قد تكون للفكر مآلات في الواقع ما كان يستحضرها المفكر وهو يصنف وينظر لأنه لم ينشغل بواقعه. يقول عمر عبيد حسنه: “إن غياب النّظر في الحكم والعواقب والمآلات والنظر إلى الأحكام على أنها قواعد ذهنية مجردة تمارس بشكل آلي بعيداً عن إدراك ما يترتب عليها، انتهى بالاجتهاد إلى العزلة عن واقع الحياة وتحقيق مصالح العباد”
إن اصطحاب مشكلات الواقع عند التطرق للقضايا المدروسة، يدفع الباحث إلى النظر إلى عناصر الموضوع وآفاقه نظرة مختلفة، وربما يجد نفسه يوسع البحث في بعض الجوانب التي لم تنل عادة توسعاً فيما كتبه السابقون نظراً للحاجة إلى طرق هذه الجوانب.
ويمكننا أن نذكر- على سبيل المثال- في هذا المجال الحاجة إلى تطوير الدراسات القرآنية لتكون أقرب إلى معالجة قضايا واقعية معاصرة من خلال التأكيد اليوم على منهجية التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، التي تأتي مُكملة للتفسير التحليلي. إذ أن التفسير الموضوعي يُمكن من دراسة القضايا المعاصرة- من خلال جمع آيات القرآن الكريم في الموضوع الواحد وربطها بالإشكاليات المطروحة حول الموضوع- أكثر مما يسمح به منهج التفسير التحليلي- فعندما ندرس- مثلاً- موضوع: “الحفاظ على البيئة من خلال القرآن الكريم”، فإننا نستطيع الوقوف على الهدي القرآني بخصوص هذا الموضوع بما لا يتيسّر لنا لو بقينا ضمن منهجية التفسير التحليلي؛ ونستطيع بالتالي أن نكتشف أبعاداً جديدة للآيات القرآنية ما كان لها أن تتجلى لو لم نتطرق إليها من خلال آليات التفسير الموضوعي التي تستنطق القرآن الكريم وتستمد هديه بعمق وشمول وبُعد نظر.
تكريس التعددية العلمية
إنّ العلوم الإسلامية هي نتاج فكر بشري تعامل مع نصوص الوحي محاولاً الوقوف على دلالاتها من خلال منهجية في البحث تقوم على قواعد وضوابط علمية مقررة؛ ولكن المساحة الأكبر في هذه العلوم تناولت قضايا اجتهادية هي من باب ظني الدلالة، وذلك إلى جانب ما هو مُعتمد من الأسس القطعية الدلالة التي لا تختلف فيها أنظار أهل العلم المُحققين.
إنه من مقتضيات الأمانة العلمية أن لا نُحول القطعي إلى ظني، ولكن أيضاً من الأمانة أن لا نُحول الظني إلى قطعي ونصادر بذلك كل رأي اجتهادي في المسائل الظنية، مادام هذا الاجتهاد قائماً على دليل علمي معتبر ويناقش الآراء المخالفة وأدلتها.
إن الالتباس الذي يحصل لدى كثير من الدّارسين هو في تقريرهم لبعض الآراء الاجتهادية والقطع بأن الصواب الأوحد هو فيما انتهوا إليه من رأي، وأن ما خالفه هو من الجهل أو الزيع والضلال. وحتى لا يقع الفكر في هذه الأحادية المفرطة اعتنى علماؤنا بعلم الاختلاف الذي خصصوا له مؤلفات عديدة وضحوا فيها قواعد الاختلاف والاستدلال وآداب المناظرة والجدل. وقد عرف القنوجي علم الاختلاف بقوله: “هو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية، ودفع الشبه وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية”. وجاء في تعريف آخر: “علم الاختلاف الواقع بين المجتهدين”( . وقد تعددت المؤلفات في هذا العلم منذ أواسط القرن الثاني للهجرة، مما يدل على اهتمام العلماء به منذ وقت مبكر، ومن هذه المؤلفات:
– اختلاف الصحابة، لأبي حنيفة النعمان (150هـ)،
– اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى (148هـ)، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (182هـ)،
– كتاب الحجة على أهل المدينة، لمحمد بن حسن الشيباني (189هـ).
كما ألفوا في اختلاف المفسرين وقواعد الترجيح بين آرائهم.
ولعل الدائرة الأوسع التي بُحث فيها موضوع الاختلاف هي دائرة الفقه وما حصل بين الفقهاء من مناقشات واسعة للآراء. وقد تطور هذا الاتجاه ليصبح فنا قائماً بذاته وهو علم الفقه المقارن، الذي تُعرض فيه آراء المذاهب والمدارس الفقهية وأقوال العلماء مع الموازنة بينها ونق أدلتها. ويعد هذا الاتجاه مفخرة للفكر الإسلامي لأنه يعبر عن عوامل السعة والمُرونة فيه.
انتهاج الدقة والعمق في طَرْقِ القضايا بدل التناول الخطابي السطحي
إن مقام البحث والدراسة غير مجال الخطابة والوعظ، ولكل ميدانه والحاجة إليه، ولكن الذي ينبغي انتهاجه في مجالي التدريس والتأليف في العلوم الشرعية هو التحري الدقة العلمية والعمق البحثي في معالجة المسائل، بعيداً عن التناول السطحي الخطابي.
وإن من مقتضيات هذه الدقة العلمية المنشودة هو ضبط الاصطلاحات وتوضيح الإشكاليات العلمية التي يتناولها الباحث بالدراسة، مع التحري في نقل الآراء ونقدها، والالتزام بالنزاهة العلمية، والصبر على استكشاف أبعاد الموضوع والتطرق إلى مسائله بعمق واقتدار. وإن المرء ليعجب من بذل العلماء السابقين من الأوقات الطويلة في تصنيف مؤلف واحد، فيكون لهذا التأليف شأن علمي معتبر لأنه ثمرة جهد عميق؛ فعندما نعلم بأن الإمام البخاري قضى ستة عشر عاماً في تصنيف صحيحه في الحديث، فإننا نستطيع أن ندرك ثمرة ذلك الجهد فيما احتوى عليه كتابه من العلم الغزير والصناعة المتقنة، سواء في مجال الترتيب أو في صياغة التراجم التي صَدر بها أبوابه، حتى قيل عنها: فقه البخاري في تَراجُمه.
إنّ تعدد وسائط الاتصال ويسر طرق النشر ربما يُغري بسهولة الكتابة والتأليف، وهو أمر محمود، إذ الإنتاج الفكري والأدبي من أهم ما يساهم في رقي الأمم والحضارات، ولكن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب العمق العلمي في التناول والبحث.
الجمع بين التحصيل الواسع وضرورة التخصص العلمي
إنّ الدارس في كل مجال من مجالات المعرفة يحتاج إلى تأسيس قاعدة من التحصيل المعرفي العام، يقف فيها على مبادئ العلوم التي تخص مجال الدراسة والتحصيل، ولكن لابد له أن يتجاوز هذه المرحلة الأولى لينطلق نحو التخصص التدريجي، الذي يكون في شعبة مُعينة ثم في حقل من الحقول المعرفية، ثم في مادة من مواد ذلك الحقل، ثم في قضية من القضايا التي يصبح فيها مختصاً اختصاصاً دقيقاً.
إنّ هذا المنحى نحو الاختصاص الدقيق هو الذي استفاد منه المنهج التعليمي الغربي، إذ أن اتساع المعرفة وكثرة المعلومات والتوسع الكمي في الإنتاج الفكري يُحتم اليوم هذا الاتجاه التخصصي، حتى يستطيع الباحث أن يُبدع وأن يأتي بالجديد.
إن التخصص هو شرط الإتقان في البحث، والمُتخصص الجاد هو الذي سيكون بإمكانه تنمية المعرفة في مجاله: وبذلك يصبح مرجعاً في موضوع تخصصه، لأنه اكتسب ملكة في مجاله تفوق بها على غيره؛ والتخصص عموماً هو من أسباب تطور البحث في سائر أبواب المعرفة.
إلا أنه في مجال البحث لابد من التوازن بين ضرورة النظرة الشمولية وبين التناول التخصصي للموضوع حتى لا يؤدي التخصص إلى نوع من التناول الجزئي للقضايا، خصوصاً تلك التي تستلزم نظراً من زوايا مختلفة وتحتاج إلى استخدام أدوات معرفية متعددة، ومن هنا يأتي التأكيد اليوم على البحث المتعدد الاختصاصات .
العناية بمنهج دراسة تاريخ العلوم والأفكار
إن دراسة تاريخ العلوم يكشف عن الأطوار التي مرت بها منذ نشأتها، وبالتالي نستطيع الوقوف على جهود من أسهموا في بنائها، وعن التطور الذي حصل في المفاهيم والنظريات. إن من الجوانب الإيجابية التي اهتم بها الفكر الغربي ما يُسمى بتاريخ الأفكار وهو فن يدرس نشوء الأفكار وتطورها عبر العصور، بما يساعد على ملاحظة البُعد التاريخي وأثره في صياغة الفكر واتجاهاته.
إنّ دراسة تاريخ الأفكار يتعلق بكل علم من العلوم وما ينضوي تحته من القضايا، وذلك للنظر فيها نشأة وتطوراً، وملاحظة الآراء المتعاقبة لأصحاب الفن، وماذا أخذ اللاحق عن السابق وماذا أضاف عليه.
لقد كان لعلماء المسلمين عناية بدراسة تاريخ التشريع الذي تعرضوا فيه إلى الأطوار التي مر بها الفقه الإسلامي عبر العصور، ولكن هذه المنهجية لم تطبق على المجالات الأخرى من العلوم، مما أفقدنا القدرة على ملاحظة نشأة الأفكار وتطورها وما صاحبها من الظروف التاريخية والاجتماعية التي ربما كان لها الأثر فيما تبناه العلماء والمفكرون من آراء. وإذا كانت عناية المفسرين بأسباب النزول باعتباره شرطاً ضرورياً يساعد على حسن فهم النص القرآني، مع أن العبرة هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكيف لا يكون الاطلاع على العوامل التاريخية مساعداً في فهم الأفكار والآراء وتنزيلها في سياقها بما يبين ما هو متأثر بذلك السياق.
وقد نبه العلماء على أهمية اعتبار الحال والزمان والمكان والشخص في تقدير الفتوى، ولذلك فإن هناك من الآراء الفقهية ما هو أقرب إلى الفتوى منه إلى تقرير حكم شرعي مطلق. وقد لا ينتبه البعض إلى هذا التفريق فيُنزل الفتوى على أنها حكم عام ليطبقها في غير مناطها، ومن الأمثلة على ذلك ما صدر قديماً عن بعض علماء الزيتونة والجزائر في زمن الاستعمار الفرنسي من فتاوى تحرم التجنس بالجنسية الفرنسية، وأخذ البعض- حتى في عصرنا الحاضر- بهذا الرأي الفقهي فيما يخص المسلمين المهاجرين المقيمين في الدول الغربية، مع أن الأوضاع والظروف مختلفة ومتباينة.
الاستفادة من كسب العلوم الإنسانية
إن العلوم الإنسانية التي اهتمت بدراسة الإنسان في الجوانب النفسية والتربوية والاجتماعية، والنظر في الجانب التاريخي والجانب الاقتصادي والجانب السياسي، قد شهدت في عصرنا الحاضر تطوراً واسعاً؛ ولئن اختلفت مُقارباتها ومناهجها، إلا أنها ساعدت على فهم الإنسان وواقعه في المجالات المختلفة. إن النتائج التي توصلت إليها هذه العلوم ليست من قبيل النتائج القطعية كما هو الحال في العلوم التجريبية، ولكنها توفر دون شك مادة علمية لا غنى للباحث عن الاستفادة منها. وإنّ الدارس للعلوم الشرعية الذي يروم ربط فهمه لها مع تنزيلها على الواقع، فيما أصبح يُعرف بالاجتهاد التنزيلي، لَمُحتاج إلى كسب هذه العلوم. يقول قطب مصطفى سانو: “إن الاعتداد اليوم بمعرفة مبادئ العلوم الإنسانية المعاصرة ضمن الأدوات الضرورية اللازمة للنظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر، نتيجة طبيعية للتغيرات الفكرية والعلمية والاجتماعية التي تعيشها الأمة، إذ لم يَعُد تسديد الحياة بتعاليم التدين متوقفا على حسن تفهم معاني الوحي وحده، إنما غدت ثمة حاجة إلى تفهم مُواز للواقع الإنساني بعلاقاته المتشابكة، وسبل تفعيله بتعاليم الدين الحنيف السامية”
إن الانتفاع من العلوم الإنسانية لابد أن يكون من خلال نظرة نقدية واعية مستوعبة، تدرك المنطلقات وتوظف المعارف والآليات توظيفاً حسنا.
اكتساب ملكة البحث والإبداع
إنّ البحث هو الثمرة العملية للتحصيل العلمي، ويجب أن يكون العمل على الوصول إلى هذه الثمرة في كل مراحل الدرس والطلب، من خلال فتح الآفاق للبحث، والتدريب على التساؤل وطرح الإشكاليات، وتأسيس حاسة الولع بالاكتشاف والإضافة المبدعة. ومما يساعد الدارس على تحصيل هذه الملكة هو التدرب على اكتساب المعرفة بنفسه وتعويده على العودة إلى مظانها وعدم الاكتفاء بالتلقين. إن الدّارس الواعي هو الذي يصل إلى القول: كم ترك اللاحق للسابق؟ وليس الذي يقول لم يترك السابقون للاحقين ما يُبحث.
وقد أخذ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور على نفسه في مقدمة تفسير- التحرير والتنوير- أن يأتي بالجديد الذي لم يُسبق إليه، فقال: “… فجعلت حقاً على أن أبدي في تفسير القرآن نُكتا لم أر من سبقني إليها، وأن أقف مَوقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها، فإن الاقتصار على الحديث المُعاد، تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد. ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رَجُلَينِ: رجل مُعتكف فيما شاده الأقدمون، وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي تلك الحالتين ضُر كثير، وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، عالماً بأن غمض فضلهم كُفران للنعمة، وجَحْدَ مزايا سَلفِها ليس من حميد خصال الأم